ما فتئت أمريكا تمعن في احتلال بلاد المسلمين عنوة بدعوى محاربة الإرهاب والتطرف وتحقيق الاستقرار ونشر التنمية. وها هي اليوم تقتحم أسوار ليبيا بالدعاوى القديمة نفسها، فتنزل بكل ثقلها لتقود المسار السياسي في ليبيا بنفسها.
والمتابع للأمر يدرك حقيقة أن عين أمريكا ليست على ليبيا فقط وإنما على منطقة شمال أفريقيا برمتها، لما تمتاز به هذه المنطقة من ثقل استراتيجي (الموقع، الموارد) على أوروبا وأفريقيا، والشرق الأوسط، وبالتالي فإن سعي أمريكا للقضاء على نفوذ بريطانيا القديم وسيطرتها على ليبيا سيمكنها من إحكام السيطرة على هذه المنطقة بالذات، ومزيدا من إحكام قبضتها على الأمة الإسلامية، بل وبسط نفوذها على العالم. كما يضمن هذا الأمر بقاءها في مركز الدولة الأولى، تتحكم في المشهد الدولي بما يحقق مصالح “أمريكا أولا”، كما هو شعار الإدارة الأمريكية للأمن القومي والسياسة الخارجية.
ولعل زيارات المسؤولين الأمريكيين توضح ما أشرنا إليه، فقد زار ليبيا مثلا كل من مدير المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز، وقائد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا الجنرال ستيفن تاونسند مدير الأفريكوم القيادة العسكرية، وتم بحث محاولة تركيز قاعدة عسكرية في فزان الليبية، كما حلت في ليبيا مساعدة وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف وقد تركزت أغلب لقاءات المسئولين الأمريكيين مع كل من حفتر والدبيبة ما يشير إلى إصرار كبير من أمريكا لكنس الاستعمار القديم والحلول محله من ناحية القوة المادية المتمثلة في قوات حفتر اليوم وفي مرحلة أخرى التمكن من الجيش حيث دعت إلى توحيد المؤسسة العسكرية كمطلب أممي وأمريكي. إذن أمريكا تقبض على السلطة في ليبيا بكلتا يديها العسكرية والسياسية.
كما تجدر الإشارة إلى أن حقد أمريكا الذي يغذي أجندتها في ليبيا يعود تاريخه إلى سنوات خالية مضت، فعندما كانت ليبيا جزءاً من دولة الخلافة العثمانية، كانت تطلب من السفن الأمريكية دفع معلوم معين وحين طلب منها معلوم جديد تمنعت أمريكا آنذاك وحاولت إرسال سفينة حربية لدك حصون ليبيا ولكنها عوقبت بنقيض قصدها واستولى المسلمون على سفينة فيلادلفيا، وأصيبت أمريكا بالقهر وكسرت شوكتها وانطفأ غرورها، ولعل ذكر طرابلس الليبية في النشيد الأمريكي إلى يوم الناس هذا هو أحد المؤشرات المهمة التي تفسر إطلاق أمريكا يد عميلها حفتر ليثخن في قتل أهل ليبيا الأبرياء، وكما ركل الجنرال اللمبي قبر الفاتح صلاح الدين يوما وقال “ها قد عدنا يا صلاح الدين” فإن أمريكا تفعل الشيء نفسه اليوم وتركل أهل ليبيا وكل المسلمين في العالم من دون شفقة أو رحمة. وبالرغم من أن حفتر متهم بجرائم حرب موثقة في المحاكم الأمريكية إلا أن أمريكا تغض الطرف عنه وتعطيه الضوء الأخضر، فهذا المبعوث الأمريكي إلى ليبيا ريتشارد نورلاند حين سئل في حوار صحفي عن جرائم الحرب التي يقترفها حفتر قال بدم بارد “نحن لا نتدخل في القضاء المستقل”.
أما النقطة الثانية في الأجندة الأمريكية فهي تقوم على قطع الإمدادات المادية للدول المنافسة لها مثل دول أوروبا، والصين وروسيا، حيث إن سيطرتها الكاملة على ليبيا ستقطع يد بريطانيا وفرنسا وتحرمهما من المواد الأولية التي كانت نهبا ليس له حسيب ولا رقيب، ومن جهة أخرى تتمكن أمريكا من قطع الطريق على الصين ومشروعها العالمي “الحزام والطريق”، كما أنها ستزيد من تعميق الأزمة الروسية وإبراز روسيا للعالم كوحش دموي وذلك من خلال طلبها المتكرر إخراج الشركة الأمنية الروسية “فاغنر” ووصمها بالإرهاب الذي عطل العملية السياسية في ليبيا وهدد الاستقرار، مع أن الشركة الأمنية الأمريكية “بلاك ووتر” وغيرها من الشركات البريطانية لها نصيب أيضا من دماء أهل ليبيا الزكية، ولكن لا تقع الإشارة إليها من باب التعمية والتضليل وهو ديدن الدول المارقة.
وإن من أهم المؤشرات التي تكشف مدى تغلغل الوصاية الأمريكية وأجندتها في ليبيا هو ما قدمه مبعوث الأمم المتحدة (اليد الطولى لأمريكا) عبد الله باتيلي من توصيات لا تخرج عن المطالب الأمريكية إطلاقا وهي تنظيم الانتخابات تحت سقف القوة الأمريكية، وذلك لأن أمريكا اطمأنت نوعا ما بأن الغلبة ستكون لها هذه المرة وبالتالي ستتخلص من الأساليب العسكرية التي تعتمدها لفترة ما والتي تكلفها الكثير من الأموال، مع تصريحها في أكثر من مرة بأنها تملك حق التدخل المباشر في صورة إلغاء هذه الانتخابات، وهذا يؤكد أنها الحاكم الفعلي، كما يؤكد على ضمور النفوذ البريطاني بل عدم وجوده أصلا.
هذه الأجندة الأمريكية الخبيثة في ليبيا ينفذها أطراف محليون من الطبقة السياسية والعسكرية على حد سواء، ويكتوي بنارها أهل ليبيا، فبعد أن كانوا في أمان سلطانهم دولة الخلافة، أصبحت تتقاذفهم قوات الاحتلال الإيطالي ثم البريطاني، وها هي أمريكا المشئومة تدخل اليوم على الخط، وهي الدولة التي ما حلت ببلد إلا ودمرته شر تدمير وأتلفت كل مقوماته الأساسية. ولهذا لا بد أن يعي أهل ليبيا على مخططات الغرب الاستعمارية، وألا يسايروا الوسط السياسي العميل الذي يقود البلد إلى حتفه.
بقلم: الأستاذ محمد السحباني