مقالات
ما وراء اعتقال النظام التونسي لراشد الغنوشي؟
بقلم م. وسام الأطرش | جريدة الراية العدد 440
يرى معارضون أن توقيف رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي وقياديين آخرين بالحزب بتهمة التآمر على أمن الدولة هدفه تصفية أبرز قوة في المعارضة، وبينما يُحمّل بعضهم حركة النهضة نفسها مسؤولية الأزمة بالبلاد، ويعتقد آخرون أن محاولة اجتثاثها لها عواقب وخيمة.
وفي تصريح للجزيرة نت، يقول زعيم جبهة الخلاص المعارضة نجيب الشابي إن ما حصل من توقيفات شملت زعيم حركة النهضة وقياديين آخرين بالحزب الاثنين الماضي 17/04/2023 يعبر عن إرادة النظام الحالي في تصفية المعارضة السياسية للرئيس قيس سعيد ومحاولة إبادتها.
ويعتبر الشابي حركة النهضة أهم حزب سياسي بالبلاد ضارب بالقدم، كما تمثل له أكبر مكوّن في أهم تحالف سياسي معارض وهو جبهة الخلاص، مؤكدا أن توقيف قياداتها ومصادرة مقراتها ومقر جبهة الخلاص عمل غير قانوني هدفه شل النشاط السياسي لهذه القوى. (الجزيرة نت)
إن ما لا يجب أن يغيب عن الأذهان أثناء متابعة المشهد السياسي في تونس بعد الثورة، هو أن استعمال ورقة الإسلام المعتدل والمراهنة على دعاته كان أمرا اضطراريا من الغرب الذي أدرك ضعف هذا التيار وحاجته له مبكراً، باعتباره حائط الدفاع الأول في مواجهة انتشار التطرف والتشدد في البلاد الإسلامية.
حيث كان الغرب بزعامة أمريكا منشغلا بإعداد البحوث والدراسات حول كيفية تقويض المد الأصولي والحد من انتشاره باعتباره عنصرا رئيسيا في تهديد المصالح الغربية حول العالم، ولعل أبرزها تلك الدراسة التي أعدتها مؤسسة راند الأمريكية والتي توصي ببناء ودعم شبكات الإسلاميين المعتدلين في البلاد الإسلامية.
إلا أن اندلاع الثورة في تونس وخروج الأمور كليّا عن سيطرة بن علي ونظامه، جعل الغرب يسارع إلى احتواء المشهد خشية انفراط العقد من يده في هذا البلد المسلم، فكان السماح بعودة زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي من بريطانيا والقبول بوصول الإسلاميين إلى الحكم بعد إخراجهم من السجون والمعتقلات، كان جزءاً من خطة احتواء المشهد السياسي وكبح جماح شعب متعطش إلى الإسلام وأحكامه العادلة، في وقت أبرزت فيه ثورة تونس مدى هشاشة بقية الأنظمة الوظيفية في المنطقة، والتي تصدعت جدرانها وآلت بدورها إلى السقوط والانهيار فيما عرف بموجة “الربيع العربي”، فكانت لتونس رمزية استثنائية تعكس وجود رغبة حقيقية في التغيير الجذري.
هذا التعامل الاضطراري إذن مع الإسلاميين المعتدلين في تونس، والحرص الكبير على اعتبارهم دون غيرهم الممثل الرسمي للإسلام السياسي، كان بهدف إفراغ المشروع الإسلامي من مضمونه مع إمكانية تحميلهم لاحقا مسؤولية الفشل السياسي والاقتصادي، ليستمر الكافر المستعمر في سياسة تغيير الوجوه والحفاظ على النظام العلماني جاثما فوق صدور المسلمين.
ولذلك فإن استهداف قيادات حركة النهضة وعلى رأسهم زعيم الحركة راشد الغنوشي بالاعتقال والسجن يندرج أساسا في إطار الحرب على الإسلام الذي يمثله الغنوشي وحركته (شكليّا) كخطوة لازمة لاستهداف الصحوة الإسلامية وتطويقها وحصر الإسلام في دور العبادة بعيدا عن التدخل في الشأن السياسي، وهو يأتي ضمن سياق محاولة غلق قوس الثورات وإنهاء مسار الربيع العربي، وإخماد جذوته في بلده المنشأ تونس من أجل نشر اليأس وقتل كل أمل أو رغبة في التغيير، وذلك استجابة لطلب طاغية الشام بشار أسد، يوم ناشد الغرب بأن يقف صدا منيعا لموجة الثورات وأن يسند نظامه باعتباره آخر قلاع العلمانية الصامدة، قبل أن تسقط كل الأنظمة من المحيط إلى المحيط.
ولذلك لاحظنا كيف تزامن اعتقال راشد الغنوشي مع وصول وزير خارجية سوريا إلى تونس وإعلان التطبيع مع نظام الإجرام البعثي، والذي اعتبره الناطق الرسمي باسم التيار الشعبي ذو التوجه القومي محسن النابتي انتصارا للمقاومة، وأي مقاومة!
كما اعتبر أنصار الرئيس أن الغنوشي يتحمل رأسا مسؤولية ما آلت إليه أوضاع البلاد، وأن قرار سجنه جاء بمثابة هديّة العيد من الرئيس وفق ما نقلته الأبواق الإعلامية المساندة لما يعتبره هؤلاء “تصحيحا للمسار”، مع أن القضية في تونس أعمق من أن تختزل في شخص الغنوشي الذي والى بريطانيا وألقى بنفسه في مستنقع الديمقراطية، وأكبر من أن يقودها متمسح على أعتاب ماكرون يحاول العودة إلى مربع الديكتاتورية. إنها قضية أمة تريد أن تتحرر من قبضة الاستعمار.
أما استهداف بقية رموز المعارضة السياسية والمسارعة إلى إشهار تُهم “التآمر على أمن الدولة” أو “السعي إلى تبديل هيئة الدولة” في وجوههم لتخلو الساحة أمام قيس سعيد، فهذا هو ديدن كل أنظمة الملك الجبري التي لا تستطيع أن تفرض بقاءها وأن تبسط نفوذها إلا عبر إخماد كل صوت يعارضها أو ينتقدها سعيا إلى إدانة كل محاولات التغيير، وإلى توفير الأرضية التي يسهل من خلالها تمرير السياسات الاستعمارية التي ترضي أسيادهم. وأكبر دليل على ذلك، هو أنه لا يوجد من بين تم اعتقالهم بهذه التهمة من يسعى فعلا إلى تبديل هيئة الدولة أو نظام الحكم، إنما هو يسعى فقط إلى تغيير الرئيس عبر الاستقواء بالأجنبي أو إلى مجرد حوار معه يوصله إلى نيل منصب حكومي، ضمن صراع شكلي على الحكم وتكالب محموم على السلطة، يبقي جميعهم مجرد أدوات للاستعمار.
في المقابل، فإن إسقاط النظام، وتبديل هيئة هذه الدولة المترنحة، كان مطلبا شعبيا أيام الثورة احتشد من أجله الناس بأعداد غفيرة، بل هو أساس اندلاعها وسبب استمرارها، حيث ترك عامة الناس مهمة إسقاط النظام وتحقيق الإرادة الشعبية في التغيير للنخبة السياسية التي وضعوا على عاقتها مسؤولية قيادة البلاد إلى بر الأمان. فهل صارت الدعوة إلى التغيير أمرا مدانا ومُجرّما ضمن منطق “ما أريكم إلا ما أرى”؟ وهلا أدرك الذين علّقوا آمالهم على “الإسلاميين” أنه لا سبيل للخلاص من أنظمة الاستعمار إلا بالخلافة وبالالتفاف حول دعاتها؟ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
ختاما، فإن صناعة البطولات الوهمية عبر معاداة مشروع الإسلام السياسي ليس سوى تملق ومغازلة للكافر المستعمر طلبا لمساعداته الاقتصادية وبحثا عن طوق للنجاة أمام تراكم الأزمات، وهي محاولة من محاولات الحكام اليائسة ليتداركوا الطوفان الذي سيجرف ملكهم الجبري ونفوذ أوليائهم عما قريب بإذن الله فتقيم الأمة على أنقاض سنين حكمهم العجاف الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي توحد شملها وتحرر أرضها وتطبق شرع ربها، وما ذلك على الله بعزيز.