تزايد الضغط الأمريكي على شمال أفريقيا
منذ أن ظهرت أمريكا كقوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية، والمعونات الخارجية على رأس أولوياتها والمدرجة في ميزانيتها تحت بند حفظ الأمن القومي. فكانت المساعدات من الأساليب الاستعمارية، التي تتبعها أمريكا في استعمار الشعوب وبسط السيطرة والنفوذ، وذلك منذ أن دخلت إلى الشرق الأوسط كقوة استعمارية جديدة تزاحم الأوروبيين. فكان مؤتمر إسطنبول الذي عقده الدبلوماسيون الأمريكيون المعتمَدون لدى المجموعة العربية في تشرين الثاني 1950م برئاسة جورج ماغي الوكيل في وزارة الخارجية الأمريكية، وكان من بين المخططات التي تمخض عنها هذا المؤتمر الذي دام خمسة أيام “اتخاذ التعاون مع أهل البلاد أسلوباً من أساليب النفاذ إلى المنطقة”، على عادتهم في تزييف الأسماء بإطلاق الدسم على السم الزعاف.
ولذلك فإن اهتمام أمريكا بشمال أفريقيا جاء منذ ذلك التاريخ وليس من اليوم، أي منذ ذلك التاريخ وأمريكا تصارع أوروبا لتزيحها وتحل مكانها في مستعمراتها، وهذا الصراع يشتد تارة ويخف تارة وفق الظروف الدولية والإقليمية. وقد نجحت أمريكا في إدخال نفوذها في كثير من مناطق الشرق الأوسط وحوض النيل على حساب النفوذ الأوروبي “بريطانيا وفرنسا” إلا أن نفوذها لم يستقر في شمال أفريقيا، لأن الأولوية كانت عند أمريكا لمنطقة الشرق الأوسط مع حوض النيل، ولكن يبدو أن الأمر تغير بعد الثورات، حيث وجدت أمريكا الفرصة سانحة للتدخل بعد إزاحة القذافي من ليبيا مستغلة الاضطرابات التي حلت في هذا البلد، ثم مراهنتها على ورقة عميلها حفتر، إلى أن نجحت في سحب البساط من تحت أقدام بريطانيا لأول مرّة بتنصيب حكومة الدبيبة. كما حاولت ولا تزال القيام بسياسة الجزرة والعصا مع تونس مستغلة هشاشة النظام وفساده واستفزازه للناس بمحاولاته تغيير جلده في كل مرّة، حتى صارت تونس حديقة خلفية لكل أعمالها في ليبيا، ومع ذلك فهي لا تهنأ حتى تجد ثغرة تنفذ منها إلى بسط نفوذها في تونس، وعينها في ذلك على الجزائر.
فأمريكا أدركت منذ وقت مبكر أن الوسط السياسي في شمال أفريقيا هو لأوروبا، ولذلك عمدت إلى وسائل أخرى غير الأعمال السياسية المعتادة مع الوسط السياسي للنفاذ إلى المنطقة، ومن أبرزها أمران:
الأول: موضوع الإرهاب واستغلاله للاتفاقيات العسكرية والنفاذ عن طريق الجيش والتدريب والمساعدات العسكرية ثم القواعد العسكرية، وهو ما مكنها من إسناد تونس صفة العضو من خارج حلف الناتو سنة 2015 أي في العام نفسه الذي أنشأت فيه قاعدة عسكرية جنوب إسبانيا، أي على تخوم شمال أفريقيا الذي رفض وجود مثل هذه القواعد العسكرية على أراضيه، كما نجحت سنة 2020 في توقيع خارطة طريق للتعاون العسكري مع تونس والمغرب لمدة عشر سنوات، فبدا الأمر وكأنه محاوطة لأطراف الجزائر.
والثاني: المساعدات الاقتصادية والمؤسسات الدولية التابعة، فنشطت عبر ذراعها الاستخباراتي المعروف اختصارا باسم USAID وهي الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، المختصة في تقديم مساعدات مسمومة تحت عنوان “التعاون الاقتصادي” وهذا من صلب سياسة أمريكا للنفاذ إلى أعماق المنطقة وصناعة العملاء، ونهب الثروات ومص الدماء. هذا فضلا عن استعمال ورقة صندوق النقد الدولي أداتها في استعمار الشعوب وتركيع الحكومات.
نعم، لقد كانت أمريكا تحرك هذين الأمرين باستمرار إلا في فترات تقع في باب استراحة المحارب! وما يعوقها منذ خمسينات القرن الماضي، هو الجزائر، لأنها دولة ذات شأن قاومت مخططات أمريكا بقوة أكثر من المغرب.
أما اليوم، فنرى أن الضغط الأمريكي صار متزايدا في المنطقة في الفترة الأخيرة، حيث توالت الوفود المحملة برسائل الإدارة الأمريكية، وتضاعفت جهود تركيع حكام المنطقة، وفُرض التطبيع مع كيان يهود على المغرب، وصارت ليبيا مرتعا لنشاط المخابرات الأمريكية تحت ذريعة محاولة إنهاء وجود مرتزقة فاغنر الروسية، حتى زارها لأول مرة مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز في كانون الثاني/يناير 2023 والتقى بحفتر في بنغازي والدبيبة في طرابلس.
كما تزايد ضغط القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا، حيث زار قائد الأفريكوم الفريق أول “مايكل لانجلي” تونس في 19/10/2022، دون لقاء الرئيس قيس سعيد، ثم زار الجزائر في 08/02/2023 وأكد أنه تبادل مع رئيسها عبد المجيد تبون وجهات النظر التي ستشكل “أرضية صلبة للعمل معا”.
وكان ذلك قبيل انعقاد مؤتمر رؤساء الأركان لجيوش دول قارة أفريقيا في روما يوم 02/03/2023، أين اجتمع قائد الأفريكوم مع رئيس الأركان الفريق أول محمد الحداد، ورئيس أركان قوات القيادة العامة الفريق أول عبد الرازق الناظوري، من أجل بحث موضوع إنشاء وحدة مشتركة كخطوة أولى لتوحيد الجيش الليبي.
في المقابل، فقد كانت شروط وإملاءات صندوق النقد الدولي ثم سحب ملف تونس من اجتماعات مجلس إدارة الصندوق في كانون الأول/ديسمبر 2022، سببا في تعميق الأزمة المالية والاقتصادية لتونس، ما يفتح الأبواب أمام أمريكا للتدخل ومحاولة الاستثمار في الأزمة من بوابة المساعدات المغشوشة، حيث أكد سفير أمريكا بتونس، جوي هود، خلال لقاء جمعه بوزير الاقتصاد والتخطيط سمير سعيد يوم 31/03/2023، استعداد أمريكا لمواصلة دعم تونس في مسارها الإصلاحي على المستويين الثنائي أو متعدد الأطراف وخاصة فيما يتعلق بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
وهكذا، تستمر أمريكا في استعمال سلاحيها (المساعدات المالية والعسكرية) من أجل إيجاد ثغرة تنفذ من خلالها إلى تونس، بعد أن أمسكت بأوراق اللعبة في ليبيا، وعينها في ذلك كله على الجزائر، القوة الإقليمية التي تحاول اختراقها والتسلل إلى قواها الصلبة منذ سنوات.
إن رأس الكفر أمريكا، هي دولة رأسمالية استعمارية تقود حربا حضارية ضد الإسلام، وإن مساعداتها المشؤومة لا تأتي إلا في إطار بسط الهيمنة والنفوذ، حتى مع أصدقائها، حيث كان مشروع مارشال بعد الحرب العالمية الثانية المعنون “إنقاذ أوروبا” مدخلاً للشركات الأمريكية لتكون شريكاً فاعلاً في مفاصل كثيرة للاقتصاد الأوروبي، فبقي تأثير العديد من الشركات الأمريكية في الاقتصاد الأوروبي قائماً إلى اليوم.
وأما في شمال أفريقيا، فهي تعمل على إزاحة النفوذ الأوروبي القديم، لتحل مكانه، ولذلك فإن إمكانية سحب البساط من تحت أقدام الكافر المستعمر واستعادة ثرواتنا الفكرية والتشريعية والطبيعية وجعل السلطان للأمة لا للاستعمار ووكلائه، لا تزال متاحة أمام مسلمي شمال أفريقيا، متى اعتصموا بحبل الله وعملوا على تحقيق وعد الله سبحانه وبشرى نبيه ﷺ بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وإن الله يهيئ لهذا العمل العظيم، رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه. فهلا استجاب أهل القوة والمنعة ولبّوا نداء الواجب فينالوا هذا العز والشرف العظيم، ويكتبوا أسماءهم بمداد من نور في تاريخ هذه الأمة الناصع، كما ناله الأنصار من قبل عندما نصروا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام؟ قال تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.
كتبه المهندس وسام الأطرش