تونس.. مرتعا للتدخلات الخارجية ومسرحا للتنافس الدولي.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ
شهدت تونس في الأسابيع الأخيرة توافد جمع من المسؤولين الأوروبيين إليها؛ حيث وفدت يوم الأحد 11 جوان 2023 رئيسة الحكومة الإيطاليّة « جورجيا ميلوني » (التي تعدّ زيارتها الثانية خلال أسبوع) مصحوبة برئيسة المفوضية الأوروبية « أورسولا فون دير لاين » ورئيس الوزراء الهولندي « مارك روته »، وتزامن هذا مع كثافة في التّصريحات التي تحذّر من أنّ انهيار تونس ستطال شظاياه أوروبا كلّها. هذا بالإضافة إلى تصريحات من مسؤولين أمريكيين يستخدمون صندوق النقد الدولي من أجل فرض شروطهم ونفوذهم حتى أصبحت تونس مرتعا للتدخلات الخارجية ومسرحا للتنافس الدولي. وإنّ أهمّ ما أعلن عنه بعد هاته الزّيارات الأوروبية، هو:
تقديم مساعدات لتونس من أجل أن تحدّ من الهجرة إلى أوروبا.
البدء في ربط تونس بأوروبا في مجال الطّاقات المتجدّدة.
مع وعود بدعم تونس في مفاوضاتها مع صندوق النّقد الدّولي.
وهذه الاتّفاقيّات هي خطر داهم بل عدوان على تونس، ولبيان ذلك نذكّر بما يلي:
تضمّ أوروبا كبرى الدّول التي استعمرت بلدان القارّة الإفريقيّة ومنها تونس، فكانت نظرتها إلى تونس ولا تزال نظرة إلى بلد يجب استعمارُه، وحتّى خروج المستعمرين (جنودهم) من تونس لم يكن إلّا تغييرا في أساليب الاستعمار إذ ظلّت تونس تابعة للمستعمر، وهذا الأمر راسخ لا في الذّهنيّة الغربيّة فحسب بل أيضا في عقليّة السّياسيين التّونسيين الذين يرون في تونس بلدا صغيرا لا يقدر على الحياة دون مساعدة، وأنّ تلك المساعدة لا بُدّ أن تكون أوروبيّة بالأساس. وعلى هذا تأسّست العلاقة بين أوروبا وتونس على أساس استعماريّ.
أوروبا المستعمرة استغلّت المستعمرات أبشع استغلال إذ جعلت من شباب تونس دروعا بشريّة في حروبها، ثمّ وبانتهاء الحروب، فتحت أوروبا أبوابها للعمال المهاجرين من بلدان المغرب العربي وإفريقيا وجنوب الصحراء لإعادة بناء ما دمرته الحرب، ثم لما انتهى دورهم سعت للتخلص منهم وغلق الأبواب أمامهم. وبدأت أسوار “أوروبا” تَعلُو كل يوم مُعلنة لملايين البشر في دول المغرب العربي وجنوب الصّحراء أنهم غير مرغوب فيهم. وهذا ما جعل الهجرة غير النظامية المُستمرة بكل مآسيها تتزايد حتّى صارت بحار بلادنا تفوح برائحة الموتى.
إذن فمسألة الهجرة مسألة استعمار نهب البلدان وجعل أهلها فقراء، حتّى ضاقت البلدان بأهلها الذين قرّروا تركها بحثا عن حياة عساها تكون كريمة. وهي في الوقت ذاته مسألة حكّام لا يرون السّياسة إلّا تبعيّة لأوروبا. وعليه فإنّ الـ »المساعدات » التي يزعمون تقديمها لتونس ليست في الحقيقة سوى تمويل أمنيّ « حربيّ » تلتزم تونس بمقتضاه بـ »محاربة » الهجرة غير النّظاميّة وتتحمّل الأعباء عن الأوروبيين في ترحيل المهاجرين، وهو ما يعني أنّ تونس ستتحوّل إلى مخفر أمنيّ لحراسة جنوب القارّة.
أمّا عن ربط تونس بأوروبا في مجال الطّاقة فشرّ مستطير، فهو لا يعني إلّا مزيدا من النّهب والسّيطرة، ومزيدا من التّبعيّة والذّلّ، فبرنامج الطّاقات المتجدّدة هو برنامج شيطانيّ خبيث ستتسرّب من خلاله مزيد من الشّركات العالميّة لتسيطر على منابع الطّاقة المتجددة ومصادرها، وتكون هي المتحكّمة فيها بعد سيطرتها ونهبها للطاقة الأحفورية التي تؤكد كل الدراسات أنها ستنضب قبيل نهاية هذا القرن، وأن شمال إفريقيا سيكون المغذي الأمثل لأوروبا من الطاقة البديلة، ولا يكون من نصيب تونس إلّا تسخير اليد العاملة الرخيصة وتوفير بنية تحتيّة لأوروبا يتحمّل التّونسيّون كلفتها أضعافا مضاعفة عن طريق القروض المهلكة التي تفاقم العجز والفقر والتبعية.
فقد شهدنا وسمعنا كلّ التّصريحات الأوروبيّة تدعو إلى إتمام الاتّفاق مع الصّندوق، وفي هذا السّياق يتمّ التّرويج أنّ الرئيس التونسي هو من يرفض إملاءات الصّندوق وأنّه يريد اتّفاقا دون إملاءات. وبدت الصّورة وكأنّ الجميع من الدّاخل والخارج يسعون خلف الرئيس ليوافق وهو الممانع المتمنّع، والحقيقة أنّ الرئيس لا يُمانع؛ لأنّ الممانع لا يجلس مع الصّندوق أصلا الذي يعني الاتّفاق معه بالضرورة الخضوع لشروطه، وهذا يعرفه الرئيس قيس سعيد، ومع ذلك جعل حكومته ووزراءه يجتمعون مع خبراء الصّندوق، حتّى تمّ وضع برنامج لتونس واتفاق على مستوى الخبراء منتصف أكتوبر 2022، لكنّ حقيقة المسألة ليست في رفض الرئيس إنّما في رفض الصّندوق إتمام الاتّفاق؛ لأنّه يريد بيع المؤسّسات العموميّة ورفعا كاملا عن دعم المواد الأساسية والمحروقات وفق جدول زمني يفرضه الصندوق، وهي الخطوة التي « رفضها » الرئيس، لأنّها مستحيلة التطبيق حاليّا، وقد قدّم وزراء الرئيس مقترحا للصّندوق يعد برفع الدّعم بشكل تدريجي عن المحروقات بداية من سنة 2024 حتّى تحريره بشكل كامل في 2026، ممّا يدلّ أنّ المفاوضات مازالت جارية لإقناع إدارة الصّندوق بالتأجيل ليس إلّا. وفي هذا السّياق تسعى أوروبا إلى « دعم » تونس في مفاوضاتها مع إدارة الصّندوق ممّا يعني أنّ أوروبا تريد من تونس الموافقة والالتزام وتريد من الصّندوق بعض المرونة حتّى يمكن تطبيق الاتّفاق.
فأين مصلحة تونس في هذا؟ وأين الممانعة والتّصدّي؟ إنّنا لا نرى إلّا بيعا للبلد ولكنّه في صورة الممتنع الرّافض، بعد أن كان من قبله يبيعها في صورة الدّيمقراطي المنخرط في عالم حرّ.
أيّها الأهل في تونس، أيّها المسلمون:
إنّكم تشهدون كلّ يوم كيف يتحوّل بلدكم من دويلة إلى مجرّد « مركز » حدوديّ تابع لأوروبا المستعمر القديم الجديد، والخطير في المسألة أن هذا الأمر يتمّ وسط خطابات جوفاء لا تكاد تنقطع عن التّحرّر والسّيادة والاستقلال، فالتّغيير الحقيقي لا يكون كلاما دون أفعال، وما نسمعه من الرّئيس كلام تنقضه الأفعال و »الاتّفاقيّات »، ففي الوقت الذي يتكلّم فيه الرئيس عن الاستقلال والسّيادة يستقبل قادة أوروبا يكلّمونه في شؤون تونس الدّاخليّة ويُشركهم في الأمر بل ما رأيناه في الأسابيع الأخيرة يدلّ على أنّ الشأن التّونسيّ قد تحوّل إلى شأن أوروبيّ بمشاركة تونس، فما شأن إيطاليا بأزمة تونس الماليّة؟ أليس الأمر داخليّا؟ ومن سوّغ لـمفوض الاتحاد الأوروبي للاقتصاد باولو جينتيلوني (في تصريحات تلفزية نقلتها وكالة نوفا للأنباء يوم الخميس 8 جوان 2023) الحديث عن استقرار تونس وتجنب التخلف عن السداد.
ثمّ أين الاستقلال حين يقول « جينيلوتي » هذا إنّ « المفوضية لديها برنامج جاهز سيضاف إلى برنامج صندوق النقد الدولي » ويقول: « نحن نعمل على تسهيل برنامج جديد لصندوق النقد الدولي ». المسؤول الأوروبي يتحدّث عن برامج اقتصاديّة تمّ وضعها لتونس، منها ما وضعه الصّندوق ومنها ما وضعه الاتّحاد الأوروبيّ. ثمّ ها هو الاتّحاد الأوروبيّ يعيّن مسؤولا آخر قارّا في تونس مهمّته الشأن الاقتصادي (مراقبة أم متابعة أم تحكّم؟) لا فرق. فأين السّيادة؟ لماذا يقرّر الأوروبيّون مصير تونس؟ أليس هذا عدوانا صريحا على تونس؟
أيّها الأهل في تونس، أيّها المسلمون:
إنّ أوروبا مستعمر قديم جديد، وقدوم قادتهم ليس إلّا عدوانا متواصلا على بلادنا واستقبالهم وإدخالهم إلى بلادنا هو إدخال عدوّ يبتغي العدوان. فهل تسكتون؟ ألم تكن ثورتكم من أجل التّحرّر فما بالنا نسكت وبلادنا تزداد كلّ يوم تبعيّة وذلّا، ما بالنا نسكت على سلطة هزيلة جعلت من تونس مرتعا لكلّ عدوّ؟
نحن مسلمون ولن تكون لنا عزّة إلّا بالإسلام، وإن ابتغينا العزّة في غيره أذلّنا الله، واذكروا إن شئتم قوله تعالى:وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
الخميس 26 من ذي القعدة 1444/ 15 يونيو 2023 حزب التحرير / ولاية تونس